منذ أن أعلن المشير خليفة حفتر "الاستيلاء على السلطة" في ليبيا، ارتكبت القوات المسلّحة العربية الليبية بقيادته انتهاكاتٍ خطيرةً للقانون الدولي الإنساني قد ترقى إلى جرائم حرب، قالت منظمة محامون من أجل العدالة في ليبيا اليوم في ظل تصاعد الهجمات العسكرية في الأونة الأخيرة على العاصمة والتي طالت المستشفيات وخلفت عشرات القتلى في صفوف المدنيين.
فبتاريخ 27 أبريل 2020، ألغي حفتر العمل بالاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، وأعلن أنه سيقود ليبيا خلال فترة انتقالية بخارطة طريق تحمي إرادة الشعب الليبي وكرامته. إلا أنّ قواته تعمل منذ ذلك الحين على تكثيف العمليات العسكرية بما أدّى إلى ارتفاع في عدد الضحايا المدنيين. وكذلك شنّت قواته اعتداءاتٍ عشوائية على أحياء مكتظّة بالسكّان، وعلى المستشفيات ومطار معيتيقة، فتسبّبت بمقتل وإصابة المدنيين بمن فيهم العاملون في مجال الرعاية الصحية والأطفال. وتتحمّل حكومة الوفاق الوطني بدورها المسؤولية ايضاً عن تجاوزات للقانون الدولي الإنساني، إذ وضعت أهدافها العسكرية، من مخازن أسلحة وما إليها، في المناطق المأهولة بالمدنيين، وهي ممارسة قد ترقى بدورها إلى جريمة حرب.
وقالت إلهام السعودي، مدير منظمة محامون من أجل العدالة في ليبيا "يجب العمل فوراً على وقف هذه الاعتداءات الغاشمة بالضربات الجوية والبرية التي تنتهك القانون الدولي الإنساني. فالمدنيون والعاملون في مجال الرعاية الصحية ليسوا أهدافاً مشروعةً، ومن المروّع أن يفقد الليبيون حياتهم نتيجة هذه الاعتداءات. على القوات المسلّحة العربية الليبية والأطراف الأخرى في النزاع احترام الحق في الحياة للليبيين، والوفاء بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي، والتقيّد بشروط الهدنة الإنسانية"، وأضافت السعودي: "إنّ استهداف المستشفيات والعاملين في مجال الصحة أمر غير قانوني في أيّ وقتٍ، ولكن له آثار اضافية مرعبة في هذا الوقت بالذات بينما يحاول القطاع الصحي جاهداً توفير الرعاية الطبية اللازمة في ظلّ تفشّي وباء كوفيد-19."
اعتداءات غاشمة على المدنيين والمنازل المدنية
تشهد العاصمة الليبية طرابلس منذ الأول من مايو 2020 تصاعداً في الضربات الجوية والبرية في أحياء مختلفة. وأفادت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في تقاريرها أنّ معظم هذه الاعتداءات ارتكبتها القوات المسلّحة العربية الليبية، وقدّرت أنّ 15 مدنياً على الأقل قد قُتلوا في الفترة ما بين 1 و 8 مايو، ما أدّى إلى ارتفاع حصيلة الوفيات في صفوف المدنيين إلى 371 منذ 4 أبريل 2019. ومن جهة أخرى، أفاد الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة الليبية في حكومة الوفاق الوطني على موقعه الرسمي على تويتر أنّ حوالي 29 مدنياً، من بينهم نساء وأطفال دون الخمس سنوات، قُتلوا في الفترة بين 1 مايو و 17 مايو. كما أسفرت الاعتداءات خلال هذه الفترة أيضاً عن إصابة 101 مدنياً على الأقلّ بجروح، من بينهم نساء وأطفال دون الخمسة أعوام. وحمّل الناطق الرسمي بدوره مسؤولية العدد الأكبر من هذه الاعتداءات للقوات المسلّحة العربية الليبية. وقد تعرضت احياء سكنية في طرابلس لهجمات عشوائية وبالأخص مناطق أبو سليم، وتاجوراء، وزاوية الدهماني، وعين زارة، وزناتة، وباب بن غشير، والهضبة، وصلاح الدين.
ونفّذت القوات المسلّحة العربية الليبية اعتداءً في 1 مايو في حيّ زناتة في طرابلس، قُتل فيها رجلان، وأصيب ثلاثة بجروح بينهم امرأة وطفل. وتحدّثت محامون من أجل العدالة في ليبيا إلى شاهد عيان من الحيّ الذي قُتل فيه الرجلان، فروى ما شاهده، قائلاً:
"حدث ذلك قبل ساعاتٍ من موعد الإفطار، سقط صاروخ على الحيّ الذي نسكن فيه، وكان صوت الانفجار مدوياً. هرعنا أنا والبعض من سكّان الحي لنتفقد ما جرى، ونحاول إنقاذ المصابين. ولم نمكث بالخارج طويلاً خوفاً من سقوط قذيفة أخرى، فتوجهنا إلى بيوتنا. وفي طريق العودة، سقط صاروخ آخر وأصيب رجلان منّا بشظايا وقُتلا على الفور."
في حادثةٍ أخرى في 6 مايو، تعرّض حيّ أبو سليم لقصفٍ شديدٍ، زُعم أنّه يستهدف مخزناً للأسلحة يتبع لكتيبة أبو سليم الموالية لحكومة الوفاق الوطني. وروى السكان لمحامون من أجل العدالة في ليبيا أنّ وقع الانفجارات في مخزن الأسلحة كان مدوياً، وأنّ بعض الصواريخ أخطأت الهدف فأصابت سيارات مدنية، وأوقعت إصابات في صفوف المدنيين. وتحدّث السكّان عن الرعب الذي انتابهم جرّاء هذه الهجمات، إذ كان صراخ النساء والأطفال يعلو على صوت القذائف. لم يجدوا مكاناً للاختباء ولا ملجأ يحتمون فيه من القصف، فكلّ ما كان بوسعهم القيام به هو البقاء في منازلهم، على مسافة بعيدة قدر الإمكان عن النوافذ والأبواب.
بعد توقف القصف، خرج بعضهم لمحاولة إنقاذ أيّ مصابين. وتحدثت محامون من أجل العدالة في ليبيا إلى قريبة ثلاثة رجال أصيبوا بينما كانوا يحاولون إنقاذ الأرواح، فروت ما جرى:
"أصيب ثلاثة أشقاء من أقربائي في هذا الاعتداء، أعمارهم بين العشرين والثلاثين عاماً. عندما سمعنا وقع الانفجارات، خرج الأشقاء الثلاثة لمحاولة إنقاذ المصابين ولكنهم دفعوا ثمن نخوتهم واصيبوا بشظايا، جُرح الأول في عينيه وساقه، والثاني في ظهره، فيما أصيب الثالث في ساقيه الاثنتين. وهم جميعاً في حالٍ حرجة."
كما تحدثت محامون من أجل العدالة في ليبيا مع امرأةً في الخمسينات، تهدّم منزلها جرّاء القصف، وروت مأساتها، فقالت:
"الشوارع في هذه المنطقة ضيّقة وهي دائماً مكتظّة بالسكان. كنت في الطابق الثاني من منزلي عندما بدأت الهجمات. كان صوت الانفجارات مدوياً، وخفت أن أخرج من المنزل. فقرّرت البقاء والاحتماء في الداخل. قمت بفصل الثلاجة عن الكهرباء واختبأت خلفها، ورحت أصرخ وانطق الشهادتين. أغمضت عينيّ وأطرقت رأسي، وكنت أسمع دويّ القصف على منزلي. بعد توقّف القصف، غادرت موقعي من خلف الثلاجة وصدمت من حجم الضرر الذي وقع في المنزل. فقد خلعت كلّ نوافذ بيتي، وتضرّر المنزل، أما الدرج المؤدي إلى الطابق الأرضي فتهدّم بالكامل. وقد ساعدني جيراني على النزول من الطابق العلوي."
استهداف مطار معيتيقة والأحياء المحيطة به
في التاسع من مايو، نفّذت القوات المسلّحة العربية الليبية مزيداً من الاعتداءات استهدفت مطار معيتيقة بأكثر من 80 صاروخاً وتعرضت الاحياء السكنية المجاورة للقصف العشوائي. وألحقت الاعتداءات أضراراً بالغةً بالمطار، بما فيها طائرتان مدنيتان، واحدة منهما كانت على وشك الإقلاع لإعادة مواطنين ليبيين عالقين خارج البلاد. ومن المعلوم أنّ مطار معيتيقة يمثّل شريان الحياة لآلاف الليبيين، والمجال الوحيد لنقل المساعدات الإنسانية لليبيين العالقين في هذا النزاع المسلّح. هذا وتستخدم حكومة الوفاق الوطني مطار معتيقة لأغراض عسكرية. يجب على الأطراف المتحاربة حماية المدنيين في ظل هذا النزاع؛ فإن استهداف المدنيين والأعيان المدنية وكذلك عدم إبعاد الأهداف العسكرية عن الأعيان المدنية والمناطق المكتظة بالسكان يعد خرق للقانون.
وتعرّضت أحياء قريبة من المطار لاعتداءات غاشمة، منها حي باب بن غشير حيث قُتل ثلاثة مدنيين. وفي محادثة مع محامون من أجل العدالة في ليبيا، روى ابن خال أحد الضحايا ما جرى، فقال:
"ابن خالي في العشرين من عمره. عندما بدأ القصف الشديد على حيّنا، خرج من منزله ليحاول إنقاذ أكبر عدد من المصابين. كان المشهد مرعباً، وفيما كان ابن خالي يحاول انتشال المصابين، أصيب بشظية ولقي مصرعه على الفور. كان يسعى للمساعدة فقُتل. لم تستطع والدتي تحمّل خبر وفاة ابن أخيها، فأصيبت بنوبةٍ قلبيةٍ وتوفيت في اليوم نفسه."
وروى أحد السكان في حيّ قريب من مطار معيتيقة لمحامون من أجل العدالة في ليبيا أنّ القصف بهذه الشدّة غير مسبوق، وأنّه تمكن من رؤية الدخان الأسود ينبعث من المطار. وردّاً على سؤال حول ما إذا كان يملك ملجأ للاحتماء مع عائلته، أجاب:
"ليس لدينا أيّ مكان نلجأ إليه، حالنا حال الكثيرين في هذه الأحياء. نعيش في خوفٍ دائمٍ من التعرّض للقصف والقتل، وهو ما رأيناه يحدث للآخرين. فنحاول قدر الإمكان الابتعاد عن النوافذ والأبواب كي لا نصاب بالشظايا؛ لا يمكننا القيام بأي شيء آخر لنحمي أنفسنا."
اعتداءات غاشمة على المستشفيات والمراكز الطبية
في 10 مايو، قال المتحدّث الرسمي لوزارة الصحة في حكومة الوفاق الوطني أنّ مستشفى أبو سليم تعرّض للقصف، ما ألحق أضراراً جسيمةً بالمستشفى وعطّل العمل به. بالإضافة إلى ذلك، تعرض المستشفى المركزي في طرابلس والمباني المحيطة به لهجمات عشوائية بقذائف أصابت 14 شخصاً بينهم نساء وأطفال، وألحقت أضراراً بوحدات ومبانٍي المستشفى.
ووفقاً لتقديرات بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، نُفّذ ما لا يقلّ عن 63 اعتداءً ضدّ مرافق صحية، وسيارات إسعاف، وطواقم طبية منذ أبريل 2019، أسفرت عن مقتل 80 شخصاً وإصابة 61 آخرين بجروح. وقد وقعت تسعة اعتداءات منذ يناير 2020 أدّت إلى مقتل خمسة أشخاص وجرح 12 آخرين.
وقالت السعودي: "إنّ تصاعد القتال لهذه الدرجة غير المسبوقة، وما ينتج عنه من انتهاكاتٍ ليس محض صدفة، ففيما العالم منهمك بمكافحة جائحة كورونا، تحاول القوات المسلّحة العربية الليبية وسائر الأطراف في النزاع تعزيز سلطتهم." وأضافت: "لقد آن الأوان للمجتمع الدولي التوقف عن الكلام المُرسل لإنهاء النزاع في ليبيا، والعمل على ملاحقة المسؤولين عن خرق حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، وقرارات وقف إطلاق النار، من داخل البلاد وخارجها، وإخضاعهم للمساءلة."